الأحد، 23 أغسطس 2009

ذكريات الليلة 130


لم أتخيل أن كل هذه الأيام ستمر وبهذه السرعة .. ولم أكن أتخيل أيضاً أن الزمن سيمضي كأنه لم يكن .. ولم أكن أيضاً أظن أنني سأنسى بهذه السهولة ..
في الحقيقة لم أكن أنوي على الإطلاق الحديث عن فترة اعتقالي .. لم يكن لدي أسباب معينة ولكنني شعرت أن الحديث عن أربعة شهور قضيتها في السجن .. والحديث عن معاناة وجهد وتعب وما إلى ذلك سيجعلني أبدو أمام نفسي وأمام الناس وكأني بطل .. وهذا شئ غاية في السوء لأن ما قدمته لا يساوي شئ ولا يذكر أمام نعم الله عليّ .. وأيضاً مقارنة بما يقدمه أصحاب العسكرية أو شهداء الإخوان أو أهل فلسطين فعلاً لا يساوي أي شئ .. أربعة شهور خرجت منها معافى لم يمسسني سوء
ولكنني اليوم أخالف ما كنت قد نويته لا لأن قناعتي قد تغيرت .. ولكنني الآن أروي ذكرياتي ومشاعري .. أروي أحاسيسي وخواطري .. وقد قررت ذلك .. لأنني وجدت الأيام تنسيني كل شئ وكأن الأربعة شهور كأنها لم تكن ولم تحدث .. الحياة تشعرني أنني لم أعيش ذلك الوقت أو هذه الفترة .. ولأنني إمرء يعشق الذكريات خفت أن أنسى ما عشته وتعلمته وتأثرت به في هذه الفترة .. خفت أن أنسى مشاعر وخواطر ونفحات وعلاقات مع أشخاص تأثرت بهم كثيراً ..
130 هو عدد الأيام التي قضيتها في السجن .. واليوم سأروي ذكريات الليلة 130 .. التي وافقت 3 مارس 2009 .. بالطبع لم أعد أتذكر كل التفاصيل ولكن هناك مشهد لا أستطيع أن أنساه .. كنا نحن السبعة نستلقي على الأرض .. يحاول كل واحد منا أن يقول أي شئ يقطع به ممل سكون الزنزانة .. أحدنا يتوقع ماذا سيحدث معنا وهل ستطول المدة أو تقصر .. وثانٍ يصف كيف اشتاق إلى بيته وأولاده .. وآخر يتمنى لحظة الخروج وكيف يتخيلها ويتصورها في كل وقت.. حتى نفد الكلام منا جميعاً .. وعدنا لفترة صمت جديدة .. هدوء وصمت .. كل واحد منا يفكر ويطرح الأسئلة على نفسه .. ولا يجد لها إجابة .. هل سأخرج ؟؟ متى؟؟ وماذا سأفعل بعدها؟؟ هل سأخرج وحدي؟؟ أم سيخرجون معي؟؟ ولكن أيضاً متى؟؟ متى ؟؟
حتى بدأ يددن .. قطعت دندنته الصمت .. والسكون .. وطرح الأسئلة .. بدأ "حسن" ينشد .. صوته ليس جميلاً .. بل إنه ليس منشداً أصلاً .. ولكننا شعرنا في هذه اللحظة وكأنه عصفور يغرد .. لأن ما بدأ في إنشاده هو ما كنا نحتاجه فعلاً "يا دعوتي سيري .. سيري .. سيري" .. بدأ صوته يعلو .. واندمجنا معه بسرعة .. وكأننا عطشى وجدوا أمامهم الماء .. ارتفع الصوت .. كلنا أخذ يردد كلمات هذا النشيد الرائع .. وجدنا في الكلمات سلوانا .. وجدنا فيها تصويرا لما نحن فيه .. وجدنا في الكلمات لذة .. وقوة .. وتثبييت .. وتحميس تشابكت أيادينا .. التحمت أصواتنا .. لمعت عيوننا .. رفعنا رؤسنا .. أصبحنا ننشد وكأننا نهتف أو نصرخ .. شعرنا أننا نكسر قيودنا .. ونقهر الأسوار حولنا .. استمر الإنشاد الثائر .. حتى وصل بنا إلى مقطع .. لم نتمالك أنفسنا عنده


أجيال ورا أجيال وصفوف وراها صفوف .. والدعوة تتورث وفداها دم ألوف
لازم نبلغها من غير خـشا أو خــوف .. ده ربنــا معانـا مين غيره يرعــانا
مين غيره مولانا ينصرنا عارفينه .. قرآنه دستورنا في قلوبنا شايلينه
هنعاهده يا خونا نفضل فدا دينه .. يا رب ثبتنا بارك اخوتنا


ظللنا نردده .. مرات ومرات .. وكأننا في كل مرة نلعن الظالم .. والظلم .. نلعن القهر .. والكبت .. نلعن من سلبنا حريتنا وأراد أن يكمم أفواهنا .. ويقتل إرادتنا .. أنشدنا حتى خارت قوانا .. وبُحت أصواتنا .. وانهكت أيادينا المتشابكة .. ارتمينا على الأرض مرة أخرى .. لم أشعر بنفسي إلا وهم يقظوني للصلاة .. صلينا الفجر .. دعونا على الظالم .. سألنا الله الفرج .. ثم نمنا ..
وفي الصباح فتح أحدهم باب الزنزانة وقال: " يلا يا جماعة " .. بعدها بساعات كنت في بيتي .. وانتهى كل شئ